كثرت الأعمال العلمية حول كتاب المدونة للإمام مالك بن أنس وتنوعت؛ ما بين تقييد، وتعليق، واختصار، وتحشية، وتهذيب، وشرح، ولعل أي كتاب من كتب المذهب لم يحظ بمثل ما حظيت به المدونة، ولا غرو في ذلك؛ إذ هي أصل علم المالكيين، بل ويروى أنه ليس بعد الموطأ ديوان في الفقه أكثر فائدة من المدونة.
ويعدُّ كتاب «مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدونة وحل مشكلاتها» للإمام العلامة أبي الحسن علي بن سعيد الرجراجي، المعروف بابن تامسريت(كان حياً في أواسط القرن القرن7هـ) من أهم شروح المدونة، وأحفلها، وأكثرها بسطاً، وأشدها فائدة ونفعاً.
ولا غرابة أن يكون هذا الشرح بهذه الرتبة؛ فمؤلفه أحد كبار فقهاء المغرب في زمانه؛ إذ رغم ندرة المصادر التي ترجمته، نجد العلامة التنبكتي يقول في حقه:«الشيخ الإمام، الفقيه الحافظ، الفروعي، الحاج الفاضل...كان ماهراً في العربية والأصلين».
ويرجع الفضل في تأليف الإمام أبي الحسن الرجراجي لهذا الكتاب إلى بعض طلبته الذين كان يدرسهم المدونة، فقد طلبوا منه أن يجمع لهم ما يتعلق بشرح اصطلاحات المدونة، وتوضيح مشكلاتها وبيان غوامضها، وفي ذلك يقول:« سألني بعض الطلبة المنتمين إلينا والمتعلقين بأذيالنا، الذين طالت صحبتهم معنا أن أجمع لهم بعض ما تعلق عليه اصطلاحنا في مجالس الدرس لمسائل المدونة، ومن وضوح المشكلات وتحصيل وجوه الاحتمالات، وبيان ما وقع فيه من المجملات، فصادف لسانه قلباً منا قريحاً بإتلام حصن الإسلام بموت فقهاء الأمة وسادات الأئمة..»، ثم قال:«والحامل على وضع هذا الكتاب: حميةً على طوائف من المبتدئين، تركوا شمس الضحى واصطلاح المشايخ، وحاولوا الاستضائة بالصبح أول ما يتنفس».
والناظر في كتاب مناهج التحصيل يجد الإمام الرجراجي أتى فيه على جميع أبواب المدونة: شرحاً لها، وحلاً لمشكلاتها ومستغلقاتها، فمهّد بمقدمة مفيدة بيّن فيها فضل العلم والتعلم، ثم شرع بعد ذلك بشرح المسائل الفقهية: بادئاً بكتاب الطهارة حتى ختم بكتاب الديّات.
ويبلغ مجموع عدد الكتب التي تضمنها تسعة وسبعين كتاباً، تحت كل كتاب جملة من المسائل نثر فيها فوائد غزيرة، وقواعد كثيرة، وفي ذلك يقول:«لخصت فيه من فصول الفوائد، وحصّلت فيه من أمهات القواعد، ما لم يلق في كتب الأولين على هذا الضبط، ولم يصادف في مجالس البحث مما جرى للمتقدمين على ترتيب هذا النمط، وقد يختلف في بعضها فحول المذهب، ونظار المغرب، ولكل واحد منهم فيما اختاره رأي مصيب، والخطب هين في اختلاف الإيراد بعد اتفاق المغزى والمراد قريب، هذا ولم أقصد الطعن في كلام المتقدمين، وتصانيف المتأخرين، بل التمثيل صحيح للسلف الأول وللخلف النظم».
وراعى في تحرير مسائل الكتاب حسن السياق، والترتيب، ووجوه التحرير والتهذيب، وتمهيد الدلائل، واستنباط الدليل، مع بيان أسباب الخلاف، وتلفيق ما يمكن تلفيقه من الأقوال، وإزالة الإشكال، واعتنى أيضاً بتلخيص مسائل المدونة، وبيان محل الخلاف فيها، وتحصيل الأقوال، وتنزيلها، وحل مشكلاتها ومحتملاتها بدليل ليشهد بصحتها أو نصوص تقع في المذاهب على وفقها.
وبالجملة فإنه لخص في شرحه هذا ما وقع للأئمة من التأويلات، واعتمد على كلام القاضي ابن رشد، والقاضي عياض، وتخريجات أبي الحسن اللخمي. والذي أسعفه رحمه الله في تحقيق هذا المنهج هو ما اتسم به من غزارة العلم وسعة الاطلاع، وكذا شدة اتباعه للدليل، فاستحق أن يكون كتابه عمدة لمن جاء بعده، إذ نقف على نقول مهمة منه في مصادر مالكية عديدة لاسيما: الشرح الكبير لأبي البركات الدردير، وحاشية الدسوقي لمحمد عرفة الدسوقي، الذي أكثر النقل عنه، فيقول مثلا في مسألة السترة:(1/216):«كما صرح به الرجراجي في مناهج التحصيل وكفى به حجة»، وكذا حاشية العدوي لعلي الصعيدي العدوي، وشرح مختصر خليل للخرشي، ومواهب الجليل لمحمد بن عبد الرحمن المغربي، وبلغة السالك لأحمد الصاوي، ومنح الجليل لمحمد عليش وغيرها..
والكتاب مطبوع في عشرة مجلدات، طبعة دار ابن حزم ( الطبعة الأولى 1428هـ/2007م ) بتحقيق أبي الفضل أحمد بن علي الدمياطي / منقول من الرابطة المحمدية
ــــــــ
مواد للتحميل :
ملف بدف / التحميل /
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق