إنَّ المتأمل في مسيرة فقهاء المالكية المتأخرين يجدهم - في الغالب - واقعين في حِصار الاختصار، لا يكادون يعدِلون عن مختصر إلا إلى ما يماثله أو يجلِّيه من شروحٍ وحواشٍ وطُرَر، وقد أدى ذلك إلى انصرافهم عن المطولات والأمهات إلى ما استخُلِص منها كرسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل، و- مِن بَعدِهما - نظمِ ابن عاشر المعروف بالمرشد المعين، وضعُف الاهتمام بكتب المتقدمين التي قام عليها المذهب في الأساس، بل وبما تقدَّم من الاختصارات في المذهب كالمختصرات الثلاثة للإمام عبد الله بن عبد الحكم المصريِّ (المتوفى سنة 214هـ) أوَّلِ من عُرف من المالكية بوضعِ المختصرات.
وإذا كان للمالكية المدنيين والعراقيين والمصريين فضل بناء قواعد المذهب، فإن للمغاربة (أهل القيروان وما تلاها غرباً)، والأندلسيين فضل حفظها ورعايتها والعناية بها تأصيلا وتفريعا،ً والتراث المغربي (المخطوط والمطبوع) شاهد على ذلك، وعمادٌ نتكئ عليه في زعمنا أن المغاربة والأندلسيين هم بحق ورثة هذا الفقه، وهم أكثر من قام على خدمته، ورعاية أصوله.
ويعد الإمام ابن غازي المكناسي(ت 919هـ) رحمه الله، أحد أعلام المغاربة وشيوخ المذهب في القرنين التاسع والعاشر الهجريين، الذي تزخر بتراثه - في أنحاء العالم- كبرى خزانات الكتب وصغارها.
من هنا جاء اختار المحقق كتابه القيِّم "شفاء الغليل في حل مقفل خليل" ليقدمه بسِفرَيه النفيسين إلى المكتبة الإسلامية محققا،ً ينتفع به القراء والمتفقهة على مذهب إمام دار الهجرة الذي عانى - طويلا - من الإهمال والتقصير في نفض غبار الزمن عن كنوزه وآثار علمائه ومحققيه.
وتأتي أهمية هذا التحقيق من أن صاحبه الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب، تمكن من الوقوف على خمس نسخ خطية أصلية لكتاب الشفاء جمعها أثناء رحلاته في إفريقيَّة والمغرب الأقصى، وقد بلغ جهده في مقابتها وفرزها.
وقد ذكرد, نجيب أن من دوافعه لتحقيق هذا السفر هو قيمته العلمية التي نلمسها في ثناء المعاصرين للمؤلف، واقتباس المتأخرين منه، ورد المختلفين إليه، ما يضيف قيمة إلى الكتاب لتعلقه بمختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي، وناهيك بقيمة المختصر ومكانه بين كتب المذهب، فقد ولع به المالكية بعدَه أيما ولوع، وانبرى كثير منهم لشرحه وبسط مسائله، وكان أهم هذه الشروح وأقدمها الشروح الثلاثة التي ألفها تلميذه أبو البقاء بهرام بن عبد الله الدميري، المتوفى سنة( 805هـ) ، وهي ما عليه المعول عن الشراح المتأخرين، حيث يردون إليها ويصدرون عنها، ويشيرون إلى مؤلفها بقولهم (الشارح) هكذا ب (ال) العهدية، وكفاه منقبةً أن يصبح علماً معهوداً في هذا المقام.
وشروح بهرام - أو بعضُها - التي ظهرت مبكرةً بلغ المغرب الأقصى الشغوف بها وبأمثالها، شيخُ الجماعة"العلامة ابن غازي العثماني"، فوقف على شرح بهرام الصغير المعروف ب"الدرر في شرح المختصر"، كما وقف من قبلُ على المختصر الخليلي، فلم يكن إعجابه بالشرح أقل من إعجابه بالمختصر نفسه، ثم إنه وجد في كلا الكتابين مواطنَ تحتاج إلى بسط، ومشكلات تحتاج إلى حلٍّ، فتتبع هذه المواضع بنظر البصير، ونقدها نقد الخبير، حتى حصل له من ذلك خير كثير أودعه كتابه الذي بين أيدينا، وهو ما عرّف به ومهد لتحقيقه محقق الكتاب، من خلال المباحث التالية:
الفصل الأول: ظاهرة المختصرات في الفقه المالكي, المبحث الأول: تمهيد, المبحث الثاني: موقف مؤيدي المختصرات الفقهية, المبحث الثالث: موقف معارضي المختصرات الفقهية, المبحث الرابع: موقف ابن غازي من المختصرات الفقهية ومما ألُِّف حولها.
الفصل الثاني: نظرة علمية حول كتاب "شفاء الغليل في حل مقفل خليل", المبحث الأول: تحقيق عنوان الكتاب ونسبته إلى مؤلفه, المبحث الثاني: موضوع الكتاب ومنهج المؤلف في وضعه, المبحث الثالث: القيمة العلمية للكتاب, المبحث الرابع: منهج المؤلف.
المبحث الخامس: بعض ما يؤخذ على الكتاب, الفصل الثالث: في التعريف بالمؤلف, المبحث الأول: اسمه ونسبه ولقبه وكنيته.
المبحث الثاني: مولده ونشأته, المبحث الثالث: رحلته في طلب العلم, المبحث الرابع: وظائفه ومهامه, المبحث الخامس: شيوخه ومروياته عنهم (وهو تهذيب وترتيب لفهرسته المسماة بالتعلل برسوم الإسناد وتذييله عليها), المبحث السادس: تلامذته, المبحث السابع: وفاته وثناء العلماء عليه, الفصل الرابع: وصف الأصول الخطية المعتمدة في التحقيق وعملنا فيه, المبحث الأول: وصف النسخ الخطية, المطلب الأول: وصف النسخ الخطية للمختصر الخليلي, المطلب الثاني: وصف النسخ الخطية لشفاء الغليل, المبحث الثاني: منهجنا وعملنا في تحقيق الكتاب.
طبع في مركز نجيبويه في مجلدين دراسة وتحقيق: د. أحمد بن عبد الكريم نجيب
ــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق