حرص العلماء على خدمة مذاهبهم الفقهية بشتى أشكال التدوين: المنثور منه والمنظوم، واحتل النظم التعليمي مكانة بارزة ضمن دواوين المدرسة المالكية بمختلف تفرعاتها، الفقهية منها، والأصولية، والعقدية، وغيرها، ومن أمثلة هذه المنظومات التعليمية «نظم بُوطْلَيْحِيَّة» للإمام الجليل العلامة الأديب ذي النظم الرائق والتصنيف الفائق محمد النابغة بن عبد الرحمن بن عمر الغلاوي المالكي الموريتاني (ت1245هـ/1828م).
وهو نظم يتكون من 314 بيتاً على بحر الرجز الملقب بحمار الشعراء، نظراً لتنوع زحافاته وسهولة نظم القصيدة فيه، وزاد هذا النظم قيمة سلاسة ألفاظه وعذوبتها، بحيث جاء متين السبك، ملائماً للقراءة والحفظ، بالرغم مما أغرقه به ناظمه استعمال للمحسنات اللفظية، كالجناس والتضمين، ويتناول النظم المعتمد من الكتب والفتوى على مذهب المالكية، ويستعرض مجموعة من المسائل الفقهية، والموضوعات الأصولية، والصوفية، والعقدية.
ويعود سبب تأليف النابغة الغلاوي للكتاب ما لاحظه على أهل زمانه من نسيان مقتضيات الفتوى، وعدم ضبط أحكامها، والجهل بأقوال أهل المذهب المعتمدة فيها وغير المعتمدة، وفي هذا المعنى أنشد قائلاً:
فخلط الصحيح بالسقيم *** وخلط المنتج بالعقيم
من جهلها أصبح في حجاب *** لم يدر بين الغرس والحجاب
جلبت في ذا النظم بعض المعتمد *** وفيه ذكر بعض ما لم يعتمد
وقد سار النابغة في نظمه وفق ترتيب منطقي، اشتمل على مقدمة وتسعة فصول وخاتمة، فجاءت المقدمة في 28 بيتاً، استهلها بقوله:
محمد نابغة الأغلال *** وقاهم الله من الأغلال
وضمن الفصل الأول مقدمة في تحريم التساهل في الفتوى، وهو في 16 بيتاً، ويتناول في الفصل الثاني المعتمد من الأقوال في الكتب والفتوى، وهو في 27 بيتاً، ويتناول في الفصل الثالث الكتب التي لا يعتمد على ما انفردت به، وهو في 45 بيتاً، واستعرض في الفصل الرابع الكتب والأقوال الشيطانية الليطانية، وهو في 30 بيتاً، ثم حذر في الفصل الخامس من البحث والفهم وأنهما غير نص، وهو في 28 بيتاً، ثم حدد في الفصل السادس شروط العمل فيما جرى به العمل، وهوفي 18بيتاً، أما الفصل السابع فتناول فيه الترجيح بالعرف، وهو في 17 بيتاً، وتطرق في الفصل الثامن إلى الترجيح بالمفاسد والمصالح، وهو في 10 أبيات، وقسم في الفصل التاسع طبقات المفتين إلى ثلاث طبقات، وهو في 47 بيتاً، ثم ختم النظم بفصل عاشر في أقل أوصاف المفتي في هذه الأزمنة، وهو في 47 بيتاً.
وأسهب الناظم في مناقشة بعض القضايا والمباحث التي تمس واقعه وحياته العلمية، في باب الاجتهاد والتقليد والإفتاء، مثل طبقات المفتين وأقل أوصاف المفتي الذي يتبوّأ هذه المنزلة، ومسألة طلاق الغضب، ومسألة طلاق أم العيال، واليمين على المعصية، وغيرها، كما انتقد في نظمه ما يشهده زمانه من انحراف فقهي، وتدنٍّ في مستوى الفقهاء والقضاة وما ذاك إلا لزهدهم في علوم الآلة، وجرأتهم على الفتوى والقضاء، وافتقارهم للقواعد الفقهية والأصولية، وفي هذا يقول:
وذاك من قصوره وجهله *** وقلة العلم بموت أهله
فليس من قوادح الدليل *** ألا يكون الحكم في خليل
وقد صرح الناظم في مقدمته، أنه ينقل أغلب مادة كتابه من كتاب نور البصر لأبي العباس الهلالي، وما كان من غيره فإنه يعزوه لصاحبه، وقد بلغ عزوه إلى نحو 20 كتاباً، منها كتاب العمليات للفاسي، وشرح مختصر خليل للتاودي، وشرح البناني، وشرح ابن عاشر، وشرح الخرشي، والمعيار للونشريسي، ونيل الابتهاج للتنبكتي، وغيرها.
والناظم لم يدّخر جهداً في ذكر أسماء الكتب والمدونات الفقهية المالكية؛ إذ بلغت عنده نحواً من 76 كتاباً، إلا أن هذا العدد لا يعدّ جرداً مستوفى ولا قريباً منه للمدونات، فقد فاته عدد كثير مما هو مشهور متداول في بلده ومعتمد عند العلماء، أبرزها الموطأ، والتفريع للجلاب، والعتبية، ومنتخب ابن أبي زمنين، وغيرها.
حظيت منظومة بوطليحية بعناية من لدن الفقهاء وكبار المفتين المالكية ببلد المؤلف؛ إذ درجوا على اعتبارها مرجعاً معتمداً، وعكفوا على حفظها وتحريرها واختصارها، ومن أهم اختصاراتهم لها اختصار الشيخ محمد المامي ولد البخاري (ت1288هـ).
ــــــــ
مصادر ترجمة المؤلف : النجم الثاقب لمحمذن ولد باباه، مقدمة نظم بوطليحية طبعة مؤسسة الريان
ــــــــــ
مواد للتحميل :
ملف بدف / رسالة ماجستير/ رابط الرسالة كاملة / رابط ملخص الرسالة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق